علينا ان نأخذ بعين الاعتبار البكتريا التي تعيش في الإنسان وعلى الإنسان، من اجل فهم آلية عمل الإنسان، إذ ان مجموع هذه البكتريا وجسد الإنسان يشكلون جسما مركبا واحداً، وعندما نتكلم عن البكتريا فنحن نتكلم عن عدد هائل من الكائنات إذ يعيش في جسد الإنسان الواحد عدد من البكتريا أكبر بعشرة مرات من مجموع عدد خلايا الجسد نفسه. بل واكثر من ذلك، فمجموع الجينات التي حصلنا عليها من البكتريا أكبر بمئة وخمسين مرة من الجينات التي ورثناها عن امنا وابونا. بمعنى اخر، ومن الناحية الجينية نحن بشر بنسبة اقل من واحد بالمئة. ومع ذلك فنحن الآن فقط بدأنا ننتبه إلى دور البكتريا في نشوئنا والتأثير علينا.
ليس فقط ان الإنسان يتضمن عشرة بليونات من البكتريا وانما هذه البكتريا أيضا تحتوي بدورها على فيروسات. في دراسة سابقة ظهر ان تؤأم وامهم كانوا يملكون مجموعات خاصة من الفيروسات وان هذه الفيروسات كانت مستقرة على طول فترة حياتهم. وفيروسات بكترياتنا غير ممرضة ولاتضر البكتريا وانما تقدم لهم على الدوام جينات جديدة. بمعنى اخر كانت الفيروسات هي مصدر الجينات التي تستخدمها البكتريا من اجل تفسيخ كربونات الهيدرات وبناء الأحماض الامينية. اي ان الفيروس والبكتريا والإنسان يعيشون في نسق واحد.
الكثيرين اليوم يعلمون اهمية الاهتمام بالبكتريا التي تعيش في معدتنا وامعائنا، على الاقل بفضل اعلانات شركات الطعام. ولكن لايجوز النظر إلى البكتريا وكانها نوع من الإضافة لتهدئة الأمعاء المضطربة، إذ ان دورها أكبر بكثير من ذلك. البكتريا جزء حيوي من الجسد ليتمكن من القيام بوظيفته. نحن والبكتريا تطورنا مع بعض وفي تلاحم تام عبر ملايين السنوات ليصبحوا جزء منا، وإذا تعرضت مستعمرات البكتريا المتوحدة معنا إلى الضرر ستواجهنا الكثير من المشاكل.
البكتريا تساعد جهاز الهضم على تفكيك الطعام واستخراج الطاقة والمواد الغذائية من الطعام والتي، بدونهم، لن نصل إليها ابداً. ولكنها أيضا تسبب العديد من التهابات الأمعاء. غير انهم يلعبون دورا رئيسيا في نشوء المناعة وحتى في نشوء الجهاز العصبي إذ يبدو أن للبكتريا دور في تشكيل الدماغ.
وجود البكتريا في الأمعاء معلوم من زمن طويل ولكن المشكلة انه من الصعب الوصول اليهم وتحديدهم. مثلا، قطرة ماء من بحيرة تحتوي على الكثير من البكتريا يمكن رؤيتها بالميكروسكوب وحساب عددها. ولكن قسم صغير منهم يعاود الظهور بعملية زراعة. الغالبية لاتنجح زراعتها وبالتالي لانصل إليها. في التسعينات بدأ العلماء استخدام علم الجينات لدراسة الفروقات الجينية بين البكتريا. في الواقع تختلف البكتريا عن بعضها في جين خاص يبني جزء مركزي من الخلية هو الريبوسوم. هذا الجين مميز لكل فصيلة من البكتريا، ومن خلاله يمكن معرفة انتماء كل بكتريا في النظام الايكالوجي الطبيعي.
في بداية الالفين توصل الطب إلى إمكانية استخدام هذا التكنيك على البكتريا التي تعيش فينا وبسرعة زادت معلوماتنا عن محتوياتنا من هذه البكتريا في كل زاوية من زوايا الجسم والدور الذي يلعبه.
احدى الاكتشافات الكبيرة التي جرت في عام 2011 من قبل فريق السويدي Sven Pettersson & Rochellys Diaz Heijtz من معهد كارولين ان بكتريا الأمعاء تتحكم في نمط الشخصية عند فئران المختبر. المقارنة كانت بين فئران تملك بكتريا في معدتها وأخرى لاتملك اي نوع من البكتريا على الإطلاق. لقد لاحظ الخبراء ان الفئران الخالية من بكتريا الأمعاء كانت اكثر نشاطا وتنحو نحو المجازفة ولاتتوانى عن الدخول في الأماكن المجهولة بالمقارنة مع الأخرى. وإذا جرى إضافة البكتريا إلى الفئران الخالية منها في فترة مبكرة من حياتهم فإن الفروقات تختفي.
ولوحظ ان الاختلاف في السلوك يرافقه اختلاف في نشاط الدماغ. تفاعل الجينات في خلايا الدماغ العصبية كانت مختلفة. التعاون بين بكتريا الأمعاء والجملة العصبية تؤثر على آلية الكثير من محفزات الإشارات في الدماغ. الفئران الخالية من البكتريا تقوم بتفكيك الهرمونات الصادرة عن الدماغ والمحفزة للكآبة المرضية والسوداوية مثل الدوبامين والنورادرينالين، اسرع من بقية الفئران. وبوجود البكتريا في الجهاز الهضمي انخفضت كمية نوعين من البروتينات الهامة لنضوج الخلايا العصبية، مما يشير إلى دور سكان الأمعاء في تنظيم عملية نمو ونضوج الدماغ في فترة الطفولة. ويقول العلماء إلى انهم يرون مؤشرات على ان البكتريا تؤثر على الذاكرة أيضا ولكن لا زال لايوجد براهين حاسمة.
الكثير واعين للعلاقة بين الجهاز الهضمي والدماغ. التوتر والقلق يؤثر على جميع فعاليات الجسم بفضل ان الدماغ يتحكم في إنتاج الهرمونات والإشارات الاشعارية. ولكن كيف يمكن للبكتريا التحكم بما يحدث في الدماغ؟
احدى التفسيرات المحببة ان البكتريا تؤثر على عصب nervus vagus وهو العصب الوحيد الذي يبدأ في الدماغ وينتهي في المعدة وهو أحد الأعصاب القحفية. ولكن لانعلم آلية التأثير على الدقة. في دراسة كندية على الفئران أيضا اختلف الامر في أن الفئران الخالية من البكتريا تأثرت بذات طريقة الفئران مع البكتريا غير ان ثلاث جينات لمُرسلات الاشعارات (أو الايعازات) في الدماغ أصبحوا في أعلى درجات نشاطهم مقارنة مع الفئران الغير خالية من البكتريا.
من جامعة كورك الأيرلندية جاء تقرير عن فئران يجري اطعامهم حساء من البكتريا المفيدة الموجودة في الكثير من منتجات الحليب: Lactobacillus rhamnosus. بنتيجة ذلك الفئران التي حصلت على البكتريا الاضافية على مدى ستة اسابيع تصبح اقل نرفزة واضطرابا واكثر نشاطا بالمقارنة مع البقية التي اكلت طعاما عاديا. وهنا أيضا جرى ملاحظة تغييرات في نشاط مُرسلات الدماغ، ولكن هذه المرة جرت ملاحظة الاشعار GABA.
غير ان كلا التأثيرين يختفيان إذا جرى قطع العصب الواصل إلى المعدة قبل اطعام الفئران حساء البكتريا. بمعنى اخر فالعصب قناة هامة للتواصل بين بكتريا المعدة والدماغ ولكن لانعرف كيف.
منطقة الأمعاء مسكن لبلايين البكتريا التي تشكل بيئتها الحيوية الخاصة ليجري الانسجام بين آلاف الأنواع والأجناس والعوائل، بحيث يمكن تشبيهها بمنظومة الغابات الاستوائية. ولكن إلى اي مدى الاختلاف بين هذه الجماعات والأنواع؟ في الواقع الفروقات بينهم ليست جذرية إذ يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة مجموعات نوعية حسب تحليل جيني قام به المعهد الأوروبي للبيلوجيا العضوية في ألمانيا European Molecular Biology Laboratory.
تحليل محتويات الأمعاء من اشخاص من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان وكيفية معالجة الطعام ظهر ان الأشخاص ينقسمون إلى ثلاثة مجموعات، بغض النظر عن الجنس أو العمر أو الوزن أو الانحدار الاثني.
النتائج كانت مفاجأة للكثيرين لان البعض كان ينتظر تنوع اكثر بل وحتى فوضوي بحيث ان هناك تنوع على المستوى الفردي. وذلك يعني انه لااهمية إذا كان الإنسان يعيش على الرز أو السمك أو اللحوم. الأسباب التي تؤدي إلى تسييد نوع من البكتريا على الأخرى في معدتك ترتبط بعوامل أخرى.
ولكن ماذا يعني الانتماء إلى احدى هذه المجموعات؟
احدى المجموعات تتميز بتسييد البكتريا من نوع Bacteroides والمعروف عنها قدرتها على تفسيخ الكربوهيدرات. المجموعة الثانية تحصل على خصائصها من عائلة Prevotella والقادرة على التأثير على الغشاء المخاطي للمعدة. اما الثالثة تسود فيها المجموعة Ruminococcus, وهي عائلة مشهورة بقدرتها على التعامل مع السكر.
البكتريا داخل كل عائلة تتكون من العديد من الأنواع وقادرة على التأثير على بعضها البعض بطريقة، حتى الآن غير معروفة لنا. عالم لبكتريا داخلنا معقد ولا زال مجهولا للغاية. غير ان هذه المعلومات القليلة التي بمتناول ايدينا تشكل القاعدة للاستمرار في التحليل للوصول إلى خصائص كل مجموعة والأمراض المنتشرة بينها أو الغير معروفة في غيرها. ذلك سيساعد على تخصص الادوية حسب بيئة المعدة. بعض العلماء اكتشفوا امراض تنشأ في مجموعات بكترية معينة ولكنهم يرفضون التصريح عنها. إضافة إلى ذلك يشيرون إلى ان معرفة الشائع من البكتريا يسمح بتشخيص قابلية مرض السمنة بمقدار 80 بالمئة من الصحة. غير انه لا زال البرهان غير كافي.
إلى فترة قصيرة لم يكن أحد يعتقد ان القرحة تسببها بكتريا Heliobacter pylori, تحيا في المعدة. البكتريا المسماة Bifidobacteria, توجد في امعائنا منذ الولادة. وهي مهمة لسببين على الاقل الأول انها تملئ المكان حتى لاتشغله البكتريا الضارة والثاني انها تنتج فيتامين b. Escherihia coli نوع يشكل بروميل واحد من بكتريا الأمعاء وضرورية في عملية الهضم. غير انه يوجد منها أنواع تفرز السموم وإذا تواجدت في المكان الخاطئ تشكل خطرا على الحياة. وفي الواقع ان الطعام في الأمعاء في فترة التخمر والتحلل تكون البكتريا من مكوناتته بمقدار النصف، والغرام الواحد يحتوي على عشرة مليارات بكتريا.
العالم السويدي Fredrik Bäckhed من أكاديمية ساهلغرينسكا يحاول الوصول إلى الأسباب التي تجعل المرء ينتمي إلى احدى المجموعات. لربما الامر بسبب الجينات ولكننا لانعلم. سؤال اخر يسعون للاجابة عليه هو : اي الجينات الأهم لتجعل البكتريا قادرة على التأثير على الجسم. وماهو التأثير الفيزيولوجي للبكتريا. البكتريا قادرة على تنشيط نمو الاوعية الدموية وأنواع الخلايا، مثلا الاغشية المخاطية التي تمتص الاغذية في جدار المعدة.
آلية كيفية تأثيرهم علينا لا زال بعيد المنال ولكنه أيضا أحد الأهداف. يجب أن نلاحظ ان جينات البكتريا في خلايانا اكثر بمقدار 150 مرة من جيناتنا نحن. هذا بذاته يبرهن على وجود روابط حيوية للغاية بيننا، إذ ان بنيتنا كبشر تتكون من مجموع كل الجينات بحيث اننا في الغالبية العظمى بكتريا اكثر منا إنسان.[1]